فصل: من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقصتهم: أن الله أراد أن يبتليهم بشيء وهو: تحريم الصيد في ذلك اليوم، وما دامت {حاضرة البحر}، فرزقهم على الصيد، فقال: لا تصطادوا في هذا اليوم، ولكن الله حين يريد أن يحكم الابتلاء ليعلمَ علم إبراز لخلقه مدى تنفيذهم للابتلاء، وإلا فهو عالم ماذا سيفعلون. فقال: لا تصطادوا في هذا اليوم. قد يقول قائل: لماذا حرم هذا الحدث في ذلك الزمن؟. نقول له: أنت تريد أن تعلم من الله أن كل تحريم له مضارة، نقول لك: لا، فقد يكون تحريم ابتلاء واختبار، ولذلك قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160].
{الطيبات} هي الحلال، لكنهم هم فعلوا ما يستحقون عليه العقاب، فقلنا لهم: ما دمتم تجاوزتم حدودكم وأخذتم ما ليس حلًا، فجعلتموه حلًا فلابد أن أجعل من الحل الذي هو لكم حرامًا عليكم، هذه مقابل تلك، فلماذا اجترأت على محرم فأحللته؟ وما دمت قد فعلت ذلك ولم ترتض تحليلي وتحريمي فأنا سآخذ شيئًا من الذي كان حلًا لك وأحرمك منه.
إذن فلا يتطلب من كل تحريم أن يكون فيه مضارة، إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يكون الإيمان له أصول ثابتة، ولذلك يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالأَخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11].
إذن فالحق لا يريد من الناس أن يعبدوه على حرف.. أي على طرف من الدين بل في وسطه وقلبه.. أي أنهم على قلق واضطرابات في دينهم لا على سكون وطمأنينة، كالذي على طرف العسكر والجيش.. فإن أحسٍّ بظفر ونصر وغنيمة سكن واطمأن، وإلاِّ فرّ وطار على وجهه. هو يريد منك إيمانًا حقًا، ولذلك فبعض الناس يقول: سأزكي لأزيد من مالي. نقول له: اخرج من بالك ظنك أن مالك سيزيد، بل أنت تزكي لأن الله طلب منك أن تزكي. أما أن يزيد مالك فهذا شيء آخر، فلعل الله يبتلي إيمانك ويريد أن يرى: أأنت مقبلٍ على الحكم لأن الله قاله، أم لأنه سيعطيك ربحًا زائدًا؟ وسبحانه حين يعطي ربحًا زائدًا ستزكيه أيضًا، لكن هو يريد من يقبل على الحكم لأنه سبحانه قد قاله.
وقد حرم الحق سبحانه وتعالى عليهم الصيد يوم السبت بظلم منهم، وكان من الجائز جدًا ألاَّ يكون هناك مغريات على المخالفة، ولكنه أراد أن يبلوهم بلاءً حقًا فيأتي في اليوم المحرم فيه الصيد ويُكْثِر من السمك، ترى السمكة ظاهرة مثل شراع المركب، وهذا معناه إغراء بالمخالفة، فلو لم يظهر السمك في هذا اليوم لكانت المسألة عادية، لكنهم حين ينظرون السمك وقد شرع مثل المراكب سابحًا في الماء، {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ}.
إذن فالابتلاء جاء من أكثر من زاوية: يوم سبتهم تأتي الحيتان شُرَّعًا، وفي غير يوم السبت لا تأتي، وهذا الأمر يجعلهم في حالة قلق. فلو كانوا على اليقين والإيمان لالتزموا بالأمر.
والله سبحانه وتعالى يريد أن يمحصهم التمحيص الدقيق، فماذا هم فاعلون؟ هم يريدون أن ينفذوا الأمر، إنما طمعهم المادي يصعب عليهم ألا يصطادوا هاذا السمك الذي يأتيهم يوم السبت، ولو أنهم وثقوا بعطاء الله في المنع لنجحوا في الاختبار. ذلك أن الحق قد يجعل في المنع عطاء، لكن مَن الذي يتنبه لذلك؟
لم يقولوا: ما عند الله خير من هذا السمك الشُّرع الذي يأتينا ويلفتنا. لكنهم احتالوا حيلًا، مثلًا: صنعوا من الإسلاك والحبال مصايد وجُبًى. وملاقف يحجزون بها هذا السمك الشُّرع في الماء ثم يأتون في اليوم التالي فيجدونه محبوسًا، وظنوا أنهم بذلك احتالوا على الله ولم يتفهموا معنى الصيد، فالصيد هو جعل السمك في حيازتك، وما دمت قد عملت بحيث تتمكن من حيازة السمك في أي وقت تكون قد اصطدت.
إذن فهم يحتالون على الله؛ ولذلك قال سبحانه: {وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 164].
وهذا دليل على وجود عناصر خير فيما بينهم، وقالت عناصر الخير: اتقوا الله. فقال لهم آخرون: لِمَ تعظون قومًا لله مهلكهم، إذن فهناك ثلاث جماعات: جماعة خالفوا، وجماعة أرادوا أن يعظوهم كي لا يقعوا في المخالفة، وجماعة لاموا من يعظونهم وقالوا: دعوهم ليهلكهم الله أو يعذبهم.. {الله مهلهكم أو معذبهم عذابًا شديدًا}، فقالت الجماعة التي تعظ: نحن نريد بالوعظ أن يكون لنا عذر أمام الله بأننا لم نسكت على المنكر ونحن نعمل لأنفسنا. {قالوا معذرة إلى ربكم} وأيضا فلعلهم يتقون ربّهم بترك ماهم فيه من المعصية والفسق. فماذا حدث؟.. يقول الحق: {فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُواءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165].
وما دام قد قال: {أنجينا}، فهناك مقابلها وهو أهلكنا، إذن فجاء هنا اللعن بمعنى الهلاك.
ويختم الحق الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} نعم لأن الحق سبحانه وتعالى بقدرته الشاملة وصفات جلاله الكاملة، لا يتخلف شيء في وجوده عن أمره، فإذا وعد بشيء فلابد أن يحدث، فأمر الله غير أوامر البشر، فأوامر البشر هي التي تتخلف أحيانًا سواء أكانت وعدًا أم وعيدًا، لأنك قد تعد إنسانًا بخير، ولكنك ساعة آداء الخير لا تستطيعه، فتكون قدرتك هي التي تحتاج إلى أداء الخير. أو توعد إنسانًا وتهدده بشرّ، وستعمل فيه كذا غدًا، وقد يأتيك غدًا مرض يقعدك فلا تستطيع إنفاذ وعيدك.
إذن فأنت قد لا تستطيع إنفاذ شيء من وعدك ولا شيء من وعيدك؛ لأن قدرتك من الأغيار، وما دامت قدرتكم من الأغيار فقد توجد أو لا توجد. لكن الحق سبحانه وتعالى إذا قال بوعد أو قال بوعيد أيوجد شيء يغير هذا؟ لا. إذن فساعة يقول ربنا بوعد أو وعيد فاعرف أن هذا سيحدث في الوعد، أما في الوعيد فإن الله قد يتجاوز عنه كرما وفضلا ما عدا الشرك بالله.
ونعرف أن الحق سبحانه وتعالى يوزع الأحداث على الزمن، فلا زمن يقيده؛ لأنه يملك كل الزمن، أما أنت كواحد من البشر فتتكلم عن الحدث حسب زمانه. فإن كان هناك حدث قد حصل قل أن تتكلم أنت عنه، فتقول: فعل ماض. أي أن الحدث قد وقع في زمن قبل زمن تكلمك، وإن كان الحدث يقع في وقت تكلمك، كان الفعل مضارعا، والمضارع صالح للحال وللاستقبال، تقول: فلان يأكل.
وذلك يعني أنه يأكل الآن. وإن قلت: سيأكل- أي أنه سيأكل بعد قليل، فإذا قلت عن أمر مستقبل إن هذا الأمر سيحدث، أتملك أنت أن يحدث؟ لا. إذن فالكلام منك على الاستقبال قد يكذب وقد يصدق، لكن إذا قال الحق وأخبر عن أمر مستقبل وعبّر عنه بالفعل الماضي فمعنى ذلك أنه حادث لا محالة؛ ولذلك فالزمن عند ربنا مُلغى.
وعندما نقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1].
و{أتى} هذه فعل ماض، وقوله: {أتى} يدل على أنه أمر قد حدث قبل أن يتكلم، وقوله: {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} دلّ على أنه لم يحدث، فالذي يشكك في القرآن يقول: ما هذا الذي يقوله القرآن.؟ يقول: {أتى} وهو لم يأت؟.. نقول له: هذا الكلام عندك أنت. لكن إذا قال الله: إنه {أتى} فهو آتٍ لا محالة، فاحكم على الحدث المستقبل من الله على أنه أمر كائن كما يكون كائنًا ماضيًا، ما دام قال فلا رادّ لأمره. {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} فهي تعني سيأتي. ولا توجد قدرة في خلقه تصرف مراده أو تعجزه عن أن يفعل.
وقوله سبحانه: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} جاء لأنه قال من قبل {أو نلعنهم} هذه مستقبل. وقد يقول قائل: أن {نلعنهم} تعني أن اللعنة لم تأت وقد لا تحدث، ونقول: لا؛ لأن أمر الله كان مفعولًا، فإياك أن تأخذ نلعن هذه التي للمستقبل كي تطبقها عند ربنا، لأن الحق سبحانه وتعالى يوضح لك: أنت الذي عندك المستقبل، والمستقبل قد يقع منك أو لا يقع؛ لأنك لا تملك أسباب نفسك، تقول: سأعمل الشيء الفلاني غدًا. وقد يأتي غدًا وتكون أنت غير موجود هذه واحدة، أو تقول: سأقابل فلانا. وفلان هذا قد لا يكون موجودًا فقد يموت، أو قد يتغير رأيك ويأتيك الشيء الذي كنت تطلبه قبل أن تتكلم مع ذلك الإنسان، أو قد تقول: أنا سأنتقم من فلان، وعندما يأتي وقت الانتقام يهدأ قلبك.
إذن فأنت لا تملك شيئًا من هذا، فلا يصح أن تجادل؛ ولذلك يعلمنا الله الأدب مع الأحداث ومع الكون ومع المكون، ويخرجنا عن أن نكون كذابين فيقول لرسوله: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْئ إِنِّي فَاعِلٌ ذلِكَ غَدًا * إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23- 24].
يعلمك الحق ذلك حتى لا تكون كذابًا، فإن قلت: أنا فاعل ذلك غدًا ثم لا تفعله، وما دمت لا تفعله فتكون كذابًا مجترئًا؛ لأنك افترضت في نفسك القدرة على الوجود.
وكل حدث من الأحداث مثلما قلنا: يحتاج إلى فاعل، ويحتاج إلى مفعول يقع عليه، ويحتاج إلى زمن ويحتاج إلى سبب، ويحتاج إلى قدرة تبرزه في المستقبل، قل لي بالله عليك: ماذا تملكه من عناصر الفعل؟
أنت لا تملك وجود نفسك ولا تملك وجود المفعول ولا تملك السبب، ولا تملك القدرة، ولا تملك شيئًا، فأدبًا منك عليك أن تقول: إن شاء الله فإن لم يحدث تقول: أنا قلت إن شاء الله وهو لم يشأ، فتكون قد خرجت من التبعة، ولم تكن كذابًا.
إذن فقول الحق: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} لأنه قال: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ}.و نلعن هذا فعل مضارع ويأتي من بعد ذلك، فواحد قد يقول: إنه سبحانه قال: سيلعن، فهل ستحقق اللعنة؟ نقول له: نعم؛ لأنه قال: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا}. وكذلك ساعة تقرأ أو تقول: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}. فعليك أن تضيف: ولا يزال غفورًا رحيمًا، لأن صفة الرحمة لم توجد له ساعة وجد المرحوم، لا. بل معنى رحيم أنه سبحانه يرحم غيره والذي وُجد ليتلقى رحمته سبحانه إنما جاء بعد أزليَّة رحمة الله ومغفرته. فسبحانه أزليّ قديم. والصفة أزلية وقديمة بقدمه- سبحانه قبل أن يوجد من يرحمه، وهو لا تأتيه أغيار. وما دام سبحانه رحيمًا قبل أن يُوجِدَ مرحومًا له فإذا أوجد مرحومًا له، أتنحلّ الصفة أم تبقى؟ إنها باقية دائمًا فكان الله ولا يزال غفورًا رحيمًا، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} نعم، لأنه قد يفعله بأسبابه وقد يفعله بدون أسباب فالأمر متروك لمشيئته فإما أن يوجد الشيء من غير سبب أو يوجده بسبب، والشيء الموجود بالسبب مخلوق بالمسبب فسبحانه خلق الأسباب. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ}
قَالَ الرَّازِيُّ: وَجْهُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا قَبْلَهَا: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ- مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ- أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنَ التَّكَالِيفِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، قَطَعَ هَاهُنَا بِبَيَانِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَذَكَرَ أَحْوَالَ أَعْدَاءِ الدِّينِ وَأَقَاصِيصَ الْمُتَقَدِّمِينَ؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ فِي النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنَ الْعِلْمِ مِمَّا يُكِلُّ الطَّبْعَ وَيُكَدِّرُ الْخَاطِرَ، فَأَمَّا الِانْتِقَالُ مِنْ نَوْعٍ مِنَ الْعُلُومِ إِلَى نَوْعٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يُنَشِّطُ الْخَاطِرَ وَيُقَوِّي الْقَرِيحَةَ اهـ، وَقَالَ النَّيْسَابُورِيُّ الَّذِي اخْتَصَرَ التَّفْسِيرَ الْكَبِيرَ لِلرَّازِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ: ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا أَحْكَامًا كَثِيرَةً عَدَلَ إِلَى ذِكْرِ طَرَفٍ مِنْ آثَارِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَأَحْوَالِهِمْ؛ لِأَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى أُسْلُوبٍ مِمَّا يَزِيدُ السَّامِعَ هِزَّةً وَجِدَّةً اهـ.
أَقُولُ: غَلِطَ الْمُفَسِّرَانِ كِلَاهُمَا فِي قَوْلِهِمَا: إِنَّ الْكَلَامَ انْتِقَالٌ إِلَى ذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَإِنَّمَا هُوَ انْتِقَالٌ إِلَى ذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُعَاصِرِينَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَكَأَنَّهُمَا تَوَهَّمَا أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي زَمَنِهِمَا، وَمَا قَالَاهُ فِي الِانْتِقَالِ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى آخَرَ صَحِيحٌ وَهُوَ أَعَمُّ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: الْكَلَامُ انْتِقَالٌ مِنَ الْأَحْكَامِ وَمَا عَلَيْهَا مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ إِلَى بَيَانِ حَالِ بَعْضِ الْأُمَمِ مِنْ حَيْثُ أَخْذُهُمْ بِأَحْكَامِ دِينِهِمْ وَعَدَمُهُ؛ لِيُذَكِّرَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِالْأَحْكَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى مُهَيْمِنٌ عَلَيْهِمْ كَمَا هَيْمَنَ عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ، فَإِذَا هُمْ قَصَّرُوا يَأْخُذُهُمْ بِالْعِقَابِ الَّذِي رَتَّبَهُ عَلَى تَرْكِ أَحْكَامِ دِينِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْمُنْتَظَرُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَحْكَامِ الْمَاضِيَةِ، وَمَا قُرِنَتْ بِهِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ أَنْ يَأْخُذُوا بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُوَصِّلِ إِلَى إِصْلَاحِ الْأَنْفُسِ، وَهُوَ أَثَرُهَا الْمُرَادُ مِنْهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يُؤْخَذَ بِهَا فِي صُورَتِهَا وَمَعْنَاهَا، لَا فِي صُورَتِهَا فَقَطْ، وَلَكِنْ جَرَتْ سُنَّةُ اللهِ فِي الْأُمَمِ أَنْ يَكْتَفِيَ بَعْضُ النَّاسِ مِنَ الدِّينِ بِبَعْضِ الظَّوَاهِرِ وَالرُّسُومِ الدِّينِيَّةِ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ بَعْضُ الْيَهُودِ فِي الْقَرَابِينِ وَأَحْكَامِ الطَّهَارَةِ الظَّاهِرَةِ، وَهَذَا لَا يَكْفِي فِي اتِّبَاعِ الدِّينِ وَالْقِيَامِ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُصْلِحِ لِلنُّفُوسِ كَمَا أَرَادَ اللهُ مِنَ التَّشْرِيعِ، فَأَرَادَ اللهُ تَعَالَى بَعْدَ بَيَانِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَهَا رُسُومٌ ظَاهِرَةٌ كَالْغُسْلِ وَالتَّيَمُّمِ: أَنَّ يُذَكِّرَ الْمُسْلِمِينَ بِحَالِ بَعْضِ الْأُمَمِ الَّتِي هَذَا شَأْنُهَا، وَكَوْنُ هَذَا لَمْ يُغْنِ عَنْهَا مِنَ اللهِ شَيْئًا، وَلَمْ يَنَالُوا بِهِ مَرْضَاتَهُ، وَلَمْ يَكُونُوا بِهِ أَهْلًا لِكَرَامَتِهِ وَوَعْدِهِ، فَقَالَ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ}، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: نَزَلَتْ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْيَهُودِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، وَيَرَى بَعْضُهُمْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ فِيهَا أَعَمُّ، وَالرُّؤْيَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ} قَلْبِيَّةٌ عِلْمِيَّةٌ كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقِيلَ: بِمَعْنَى النَّظَرِ، وَالْمَعْنَى أَلَمْ يَنْتَهِ عِلْمُكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، أَوَلَمْ تَنْظُرْ إِلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُعْطُوا نَصِيبًا أَيْ: حَظًّا وَطَائِفَةً مِنَ الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ كَيْفَ حَرَّمُوا هِدَايَتَهُ وَاسْتَبْدَلُوا بِهَا ضِدَّهَا فَهُمْ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ بِاخْتِيَارِهَا لِأَنْفُسِهِمْ بَدَلًا مِنَ الْهِدَايَةِ، وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ السَّبِيلَ أَيْ: طَرِيقَ الْحَقِّ الْقَوِيمَ كَمَا ضَلُّوا، فَهُمْ يَكِيدُونَ لَكُمْ لِيَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا، وَالتَّعْبِيرُ بِالنَّصِيبِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَحْفَظُوا كِتَابَهُمْ كُلَّهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَحْفَظُوهُ فِي زَمَنِ إِنْزَالِهِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ كَمَا حَفِظْنَا الْقُرْآنَ وَلَمْ يَكْتُبُوا مِنْهُ نُسَخًا مُتَعَدِّدَةً فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ كَمَا فَعَلْنَا، حَتَّى إِذَا مَا فُقِدَ بَعْضُهَا قَامَ مَقَامَهُ الْبَعْضُ الْآخَرُ، بَلْ كَانَ عِنْدَ الْيَهُودِ نُسْخَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ التَّوْرَاةِ هِيَ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَفُقِدَتْ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَفِيهِ بَحْثُ تَارِيخِ كِتَابَتِهَا وَحَقِيقَةُ الْمَوْجُودِ الْآنَ مِنْهَا وَبَحْثُ كِتَابَةِ الْإِنْجِيلِ كَذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي كُلٍّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى: {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [5: 14]، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ مَا هُنَا، يَقُولُ هُنَا: إِنَّهُمْ أُوتُوا نَصِيبًا أَيْ حَظًّا، وَيَقُولُ هُنَاكَ: إِنَّهُمْ نَسُوا حَظًّا، فَالْكَلَامُ يُؤَيِّدُ وَيُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَالتَّعْبِيرُ: أُوتُوا الْكِتَابَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَا يُعَارِضُهُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ لِلْجِنْسِ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ عِلْمُهُ.